فلسفة

تعريف السعادة: رحلة البحث عن سر الوجود

السعادة.. ذلك السراب الذي يركض خلفه الإنسان منذ وجد على هذه الأرض، لا يكفّ عن السعي إليه، لكنه حين يظن أنه قد قبض عليه، يتبخر بين يديه كضوء نجمة بعيدة. فهل السعادة هي وهم نحياه؟ أم أننا لا نعرف حقًا ما هي السعادة؟ دعونا نخوض معًا رحلة نتعرف من خلالها على تعريف السعادة في الفلسفة والدين والعلم..

تعريف السعادة

إذا حاولنا القبض على تعريف جامع واضح للسعادة، وجدنا أنفسنا أمام معضلة أزلية، ألا وهي أن الكثير يربط بينها وبين المتعة العابرة، في حين أنها قد تكون أعمق من ذلك بكثير. لا عجب إذن أن الفلاسفة وعلماء النفس ورجال الدين وحتى السياسيين، على اختلاف مشاربهم، قد اجتهدوا في فكّ طلاسمها، لكن كلٌّ رآها من زاويته الخاصة. دعونا نلقي نظرة على ما قاله الفلاسفة في تعريف السعادة..

السعادة في الفلسفة

تعريف السعادة
ماذا قال الفلاسفة عن السعادة؟

منذ بزوغ الفلسفة، يحاول الفلاسفة سبر أغوار السعادة. أفلاطون، على سبيل المثال، رأى أن جوهرها يكمن في مكارم الأخلاق كالفضيلة والشجاعة والكرم، لكن السعادة الحقيقية ليست من نصيب هذا العالم، بل تسكن في عالم آخر أكثر نقاءً. أما أرسطو، فقد جعلها مرادفة للحياة الطيبة، التي تتحقق من خلال الصحة والثراء والنجاح والسمعة الطيبة وسلامة العقل.

وفي القرن السابع عشر، قال سبينوزا إن السعادة الحقيقية تنبع من التحرر من الأهواء والشهوات. أما توما الأكويني، فربطها برؤية الجوهر الإلهي، وكأنها لا تُنال إلا حين تنكشف الحقيقة المطلقة. كما تأمل الفلاسفة المسلمون في تعريف السعادة من منظور آخر. حيث رأى الفارابي أنها غاية في ذاتها، تتحقق بالتأمل والمنطق السليم، بينما اعتقد ابن سينا أن السعادة الحقيقية لا تأت إلا حين تتحرر الروح من قيود الجسد، فتتصل بالعالم الروحاني والإلهي.

وفي العصور الحديثة، رأى نيتشه أن السعادة تكمن في القوة المتزايدة، بينما اعتبرها برتراند راسل وليدة الاستسلام للحب. أما كيركجارد، فآمن بأنها الانغماس في الحاضر والاستمتاع بالرحلة ذاتها، لا بالوصول إلى محطة معينة. يقول جون ستيوارت ميل إن تحقيق السعادة لا يمكن إلا إذا تخلى البشر عن إشباع رغباتهم والتركيز على ما لديهم في الوقت الحالي، بينما يرى سيغموند فرويد أن السعادة نسبية، وهي مشروع يمتلكه البشر، لكنهم لا يحققون منها إلا جزءاً يسيراً بسبب طبيعة الحياة.

السعادة عند الفلاسفة

سعى العديد من الفلاسفة على مر التاريخ في وضع تعريف شامل لمفهوم السعادة، وكيف يحصل عليها الإنسان. في هذا القسم نستعرض آراء وأفكار هؤلاء الفلاسفة وما قالوه عن السعادة:

  • أبيقور: السعادة هي الشعور بالمتعة الجسدية والفكرية وعدم الشعور بالمعاناة بأي شكل من الأشكال.
  • لاو تسي[1]: السعادة هي أن البشر يجب أن يعيشوا في الوقت الحاضر ليشعروا بالسعادة، وأن تذكر الماضي أو التفكير في المستقبل لن يؤدي إلا إلى توليد التوتر والتوقف عن الاستمتاع باللحظة.
  • سينيكا: السعادة هي شعور يمكن لجميع البشر الحصول عليه. وهو مفهوم يعتمد على تصور كل شخص، يشعر البشر بالسعادة في حالة إذا تخلوا عن رغبتهم في الحصول على ما ليس لديهم.
  • فولتير: السعادة هي ذلك الشعور الذي يسعى إليه جميع الناس وهو شعور مقدر للجميع، ومع ذلك، فهم لا يعرفون كيفية العثور عليها أو ما يجب عليهم فعله للعثور عليها[2].
  • إيمانويل كانط: السعادة واجب على الناس، فهي أبعد من كونها رغبة أو اختياراً. ولكي يحصل الإنسان على هذا الشعور يجب عليه أن يتخذ قراراً بفعله والعمل على تحقيقه. إن شخصية الشخص والموقف الذي يتخذه تجاه حياته هو الذي يحدد سيكون سعيداً أم لا.
  • هنري ديفيد ثورو: السعادة مثل مطاردة الفراشات، فكلما ركزت على مطاردتهم للقبض عليهم، كلما ابتعدوا. ومع ذلك، عندما تتحلى بالصبر وتنتظر، يصلون ويهبطون عليك بمحض إرادتهم.

تعريف السعادة في الأديان

الأديان في العالم
رموز بعض أديان العالم

تتقاطع الأديان السماوية الثلاثة – اليهودية والمسيحية والإسلام – في تعريفها للسعادة على أنها ثمرة الإيمان بالله واتباع أوامره، فهي ليست مجرد شعور لحظي، بل حالةٌ من الطمأنينة الروحية العميقة. أما في الديانة البوذية، فإن تحقيق السعادة لا يكون إلا عندما يتخلص الإنسان من القلق ويتجاوز التعلُّق بالماديات، ليصل إلى حالةٍ من التناغم مع الوجود. يقول بوذا أن “السعادة ليست طريقاً نسلكه، بل هي الطريق ذاته”، وكأنها حالة داخلية نختبرها حينما نزهد في التعلّق بالماديات.

تعريف السعادة في العلم

قدمت العديد من فروع العلوم تعريفات متعددة للسعادة. ففي علم الأحياء، تُعرَّف السعادة على أنها نتيجةٌ لنشاطٍ عصبيٍّ معين، حيث يتسبب تحفيز الجهاز الحوفي في الدماغ بإطلاق مواد كيميائية تعرف باسم هرمونات السعادة مثل الدوبامين والأوكسيتوسين والإندورفين والسيروتونين، وهي المسؤولة عن مشاعر الفرح والراحة.

أما في علم الاجتماع، فالسعادة ليست مجرد إحساس فردي، بل هي حالةٌ ذاتية تتأثر بالعوامل الاجتماعية والمادية والعاطفية. في حين يرى الأنثروبولوجيون أن مفهوم السعادة يختلف من ثقافةٍ إلى أخرى، إذ يرتبط بالسياق البيئي والاجتماعي لكل مجتمع.

تعريف السعادة في الأدب والفن

لم يكن الأدباء والفنانون بمعزل عن هذا الجدل الأزلي حول تعريف السعادة، فقد عبروا عنها بأساليبهم الخاصة. يقول الشاعر الألماني جوته إن السعادة تتحقق عندما يدرك الإنسان مزايا من حوله، بينما يرى الفيلسوف والكاتب جان بول سارتر أن السعادة تكمن في الرغبة فيما نفعله، وليس في البحث عنها كهدف مستقل.

أما الرسام الإسباني بابلو بيكاسو، فقد اعتبر أن السعادة هي فعل ما يمنح الإنسان الإحساس بالامتلاء، محذرًا من الوقوع في فخ الروتين الذي يقتل البهجة. بينما يرى السياسي الأمريكي بنجامين فرانكلين أن السعادة ليست في اللحظات الكبرى، بل في التفاصيل الصغيرة التي تحدث كل يوم.

أسطورة السعادة

تعريف السعادة
هل السعادة موجودة؟

ترى الفيلسوفة جينيفر هيشت أن الإنسان يختبر أنواعًا مختلفة من السعادة، لكن هذه الأنواع قد تتضارب أحيانًا. فالنجاح المهني، مثلاً، قد يتطلب التضحية ببعض المتع، والعكس صحيح. وهكذا، يبدو الجمع بين كل أشكال السعادة أمرًا مستحيلاً، وكأنها موزعة بين البشر دون أن يملك أحد حيازتها كاملة.

لماذا نظن أن السعادة في المستقبل؟

يعيش الإنسان بين ماضٍ يتذكره بحنين، ومستقبلٍ يراه مليئًا بالأمل، لكن حين يصل إلى ما كان يحلم به، يجد أن السعادة ليست هناك. كم مرة قلنا لأنفسنا: “ألن يكون رائعاً أن ندخل الجامعة؟ أن نقع في الحب؟ وأن نتزوج؟ أن ننجب؟”، ولكن حين نحقق هذه الأحلام، نجد أننا نعود للبحث عن سعادة جديدة. وكأننا دائمًا نسعى، لكننا لا نصل.

أشار علماء النفس إلى ما يسمى “الانحياز الإيجابي”، وهو ميلنا إلى الاعتقاد بأن مستقبلنا سيكون أفضل من حاضرنا. يؤكد مبدأ بوليانا أننا نتذكر الماضي بشكل أكثر جمالاً مما كان عليه، وهذا ما يجعل “الأيام الخوالي” تبدو أفضل دائمًا.

ربما يكون خداع الذات جزءً من آليات البقاء لدينا. فلو لم نؤمن بأن المستقبل سيكون أفضل، لما وجدنا الدافع للاستمرار. السعادة الأبدية قد تكون نعمة، لكنها في ذات الوقت قد تجعلنا بلا طموح، بلا سعي، بلا هدف.

هل المال يجلب السعادة؟

إذا كانت السعادة تكمن في المال، فلماذا ينتحر بعض أصحاب المليارات؟ ولماذا يسعى الأثرياء للسلطة والشهرة؟ لا شك أن المال يوفر الراحة، لكنه ليس الضامن الوحيد للسعادة، فهناك من يملكونه لكنهم لا يشعرون بأي رضا داخلي. أن نفهم أن السعادة ليست شيئًا واحدًا، وليست دائمة، هو أمر قد يجعلنا أكثر تقديرًا للحظات السعيدة حين تأتي. لا أحد يملك كل شيء، والقبول بهذا الواقع قد يحمينا من أعظم عائق أمام السعادة: الحسد.

ربما السعادة ليست محطة نصل إليها، بل رحلة نخوضها، نكتشف خلالها لحظات من البهجة، قبل أن نواصل الطريق، نحو مجهول جديد..

ومن خلال استعراض تعريف السعادة في الفلسفة والعلم والدين والأدب، ندرك أنها ليست حالة ثابتة، بل تجربة متغيرة تختلف باختلاف الأفراد والثقافات. هناك من يراها في القوة، ومن يراها في الحب، ومن يجدها في الإنجاز، ومن يراها في بساطة الحياة. ربما تكمن الإجابة الحقيقية في فهمنا أن السعادة ليست هدفًا يُطارد، بل أسلوب حياة يُعاش.

هوامش

[1] لاو تسي أحد أشهر الفلاسفة في الثقافة الصينية.

[2] يقول فولتير: “إننا نبحث عن السعادة، ولكن دون أن نعرف أين؟ مثل السكارى الذين يبحثون عن منزل، مع العلم أن لديهم واحداً”.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!