أسلوب حياة

هل التربية الإيجابية كافية لمعالجة سلوكيات الأطفال الصعبة؟

هناك مسألة شائعة اليوم لم يتم العثور على تفسير دقيق لها أو حتى حل ناجح، وهي الصعوبة التي يواجهها الآباء في تربية أطفالهم ضمن حدود معينة.. بمعنى وضع القواعد، والانضباط الضروري، والاحتواء الأساسي للتنظيم والنضج وتأهيل الطفل للدخول إلى الفضاء الاجتماعي… دعونا نبدأ القصة من البداية لنتعرف على أهم معوقات التربية الإيجابية للطفل..

الإفراط في الحب

لقد تحول الأطفال إلى طغاة صغار.. يتصرفون بحرية، يخاطبون البالغين كما لو كانوا أندادًا لهم، ولا يقبلون “لا” من الوالدين دون مبررات طويلة ومفاوضات شاقة قد تتحول أحيانًا إلى نوع من الدوران في حلقة مفرغة. والنتيجة هي أن الطفل يعيش في حالة دائمة من عدم اليقين.. وعدم وجود انضباط يجعله يشعر بعدم الأمان ويصعب عليه التركيز وبذل الجهد والتعايش مع الآخرين. بالطبع، هم ليسوا السبب: نحن الآباء الذين تخلينا عن دورنا كمعلمين، على الأقل في هذا الجانب المتعلق بوضع الحدود. فما سبب هذا الاستسلام؟

يشير بعض التربويين أن السبب هو “الإفراط في الحب” أو بالأحرى “الإفراط في العاطفة”. يرغب الآباء في تربية أطفالهم بشكل جيد بأي ثمن، وربما بسبب هذا الجهد الكبير، يشعرون بعدم الأمان ويخشون عدم معرفتهم بكيفية القيام بذلك… ولكنني أعتقد أن هناك شيئًا يحدث بالتوازي، شيء قد لا نعترف به دائمًا لأنفسنا: لقد أصبحنا معتمدين على أطفالنا؛ على حبهم الذي نخشى فقدانه؛ على رضاهم الذي نخشى ألا نستحقه. ومن يتحرك بهذا القدر من الخوف لا يمتلك الصلابة التي يتطلبها تطبيق “القانون”.

وبالتالي المشكلة ليست الإفراط في الحب بقدر ما هي في الحب الذي يُوجَّه بطريقة خاطئة. عندما نعشق أطفالنا، نصبح معتمدين على حبهم… غضبهم منا يزعجنا أحيانًا.. ويبدو كما لو أننا لا نستطيع تحمل فكرة أن يكرهنا أطفالنا قليلًا عندما نعارضهم. توقظ فينا أدنى إشارة لعدم رضاهم مشاعر الخزي أو الذنب، وتثير فينا الشك القاسي بأننا آباء سيئون. وهكذا تُفتح الأبواب على مصراعيها للابتزاز العاطفي؛ فالطفل يستغل غريزيًا قوة احتجاجاته ويمضي بها إلى أقصى حد حتى يحصل على ما يريد.

دور الآباء في التربية الإيجابية

دور الآباء في التربية الإيجابية
أساليب التربية الإيجابية

“يحصل على ما يريد” ليست عبارة دقيقة تمامًا، لأنها توحي بنية سيئة أو رغبة في فرض نفسه على الآخرين. في الواقع، الأمر أبسط بكثير، وعلينا أن نعترف بذلك على النحو التالي: يسترشد الطفل في سلوكه بمبدأ المتعة الخالصة، فهو “مبرمج” لمحاولة فعل ما يريده. لم يصل بعد إلى مرحلة النضج الكافية للابتعاد عن الغريزة الفطرية للإشباع.. ولم يبنِ بعد هوية، أو هيكلًا أخلاقيًا، أو مفهومًا لدور القواعد في التعايش مع الآخرين. باختصار، الطفل ليس اجتماعيًا بما فيه الكفاية بعد. لو كنا نولد بمعرفة ما هو الصواب وما هو خطأ، وقدرة على التحكم في أنفسنا، لما احتجنا إلى التربية. لهذا السبب، يجب على البالغ أن يقوم بهذا الدور في البداية، أن يساهم بالوعي، والفكر التأملي، والقيم الأخلاقية، والقواعد.

لا يعني ذلك أن آباء اليوم لا يعرفون أن لديهم هذا الدور.. في الواقع، يلعب معظمنا هذا الدور بسرور، راضين عن قدرتهم على منح الحب والرعاية.. المشكلة هي أننا ربما نؤدي هذا الدور بسعادة مفرطة. نرافق كل توجيه بسيل من التفسيرات والتبريرات، الكثير منها لا يفهمه الطفل أو ببساطة يشعره بالملل. ولتجنب الشعور بأننا طغاة، ننخرط في مفاوضات لا تنتهي، إن لم يكن في تعقيدات دبلوماسية، فقط لتفادي كلمة “لا” صارمة وغير قابلة للنقاش. دعونا نعترف أنه عندما ننتصر، فإننا نفوز غالبًا بسبب الإرهاق. لقد حصلنا فقط على مهلة مؤقتة: بما أن الطفل لم يتعلم، في المرة القادمة سيكون علينا أن نبدأ من جديد.

إذن، نحن الآباء نفشل في المرحلة الأخيرة من العملية التعليمية، عندما يتعين تطبيق القاعدة. نحن مثل القضاة الذين يطيلون النقاش وفي النهاية لا يصدرون الحكم؛ أو بالأحرى، يترددون عند تطبيقه. بالطبع، هذه هي اللحظة الأهم، وعدم الالتزام بها يفسد كل ما سبق. إن جهودنا في التفسير والتفاوض تعتمد على افتراض خاطئ، على وهم زائف، وهو أن الطفل سيكتفي بالفهم ليقوم بتصحيح سلوكه بنفسه، وبالتالي يوفر علينا المهمة الشاقة للقيام بذلك بأنفسنا. ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى من الأطفال لا يمكنهم فعل ذلك، ولا يمكننا أن نلومهم. وبالتالي، يجب أن يكون دورنا كآباء هو القيام بهذا الدور نيابة عنهم حتى يتمكنوا هم من فعله. هذا هو جوهر التربية الإيجابية.

القواعد الصارمة

طرق التربية الإيجابية للأطفال
تطبيق القواعد الصارمة على الأطفال

من المهم أن ندرك أنه في بعض النقاط والجوانب الأساسية، يصبح المنع والتحذيرات غير قابلة للتفاوض، وربما حتى غير مبررة على الأقل من منظور الطفل. هذا هو الحال في العالم الاجتماعي الذي تحكمه القواعد، والتي تكون في بعض الأحيان تعسفية مثل العادة.. السلطة موجودة، وهي التي تحدد وتدير الحدود، لأن الفضاء الاجتماعي يتسم أساسًا بالقيود التي يفرضها القانون.. هذا القانون الذي لا يمكن مناقشته أو التفاوض عليه مع الأطفال، وفقًا لمبدأ أن (لا) يجب أن تكون (لا) و(نعم) يجب أن تكون (نعم)، هو ما يسمح لهم بدخول الحياة في المجتمع. إذا لم نعلمهم القانون، فإننا نجعلهم غير متحضرين وندفعهم نحو التهميش، إن لم يكن نحو الجنون. نحن نحرمهم من الوسائل التي تمكنهم من العيش في وئام مع الآخرين. وفي الواقع من خلال التنشئة على السلطة والأعراف نحن نؤهل أطفالنا للتعايش والدخول الناجح في العالم الاجتماعي.

فهم ذلك يجب أن يمنحنا القوة لمواجهة مخاوفنا. لن نكون أبدًا متأكدين تمامًا من أننا آباء جيدون: في الواقع، لن ننجح في أن نكون كذلك بشكل كامل. هذا الحلم بالكمال هو وهم من جانبنا. في يوم من الأيام، قد نضطر إلى الاستماع إلى انتقادات أطفالنا والاعتراف بصحتها. يجب أن نتخلى عن أن نكون الآباء المثاليين ذوي الحب الذي لا يرقى إليه الشك، لكي نكون الآباء العاديين الذين يحتاجهم أطفالنا.

أوهام التربية الإيجابية المدمرة

اضطرابات الطفولة
علم النفس والتربية

زرع فينا التحليل النفسي وجزء كبير من علم النفس ثلاثة أوهام مدمرة: أولها، افتراض أن العديد من الاضطرابات تتشكل في الطفولة، وهذا ما يثير خوفنا وشعورنا بالذنب وعدم الأمان مقدمًا؛ والثاني تكريس صورة المختص الذي يعرف حقًا ما يجب فعله، وهو ما يجعلنا نشعر أيضًا بالجهل وعدم الثقة؛ وأخيرًا، خلق الوهم بأن التربية يمكن أن تكون عملاً شبه علمي، يعتمد على مبادئ دقيقة ونهائية، نسعى جاهدين لاتباعها ولكن نشعر في العمق أننا غير قادرين على القيام بها.

كل هذه الأوهام، التي تضعف عزيمتنا وتجعلنا نرى التربية الإيجابية تحديًا غير قابل للتحقيق، صحيحة ومفيدة إلى حد معين، لكنها خاطئة وخطيرة إذا أخذناها إلى أقصى الحدود، ويجب أن ندرك ذلك حتى لا تؤثر علينا كثيرًا. صحيح أن النواقص والصدمات في الطفولة تشكل الشخصية وتستمر مدى الحياة، ولكن ليس أقل صحة أن العيش في حد ذاته صعب، وأننا كأشخاص نفعل ما بوسعنا، وأن درجة معينة من النواقص والصدمات أمر لا مفر منه، وهو جزء من حقيقة الوجود. واجبنا كآباء هو حماية أطفالنا، وتغذيتهم، ومنحهم حبنا؛ وإذا قمنا بكل ذلك بطريقة معقولة، فقد قمنا بالكثير بالفعل، أما الباقي فيعتمد على الحكمة والفطرة السليمة.

لأنه بمجرد تلبية احتياجاتهم الأساسية، يقع على عاتقنا أيضًا مسؤولية تعليمهم كيفية تنظيم أنفسهم وإدارة تكيفهم الاجتماعي. وهذا الأمر، وهو أكثر صعوبة بكثير، يتضمن تعليم الحدود، ولا يمكننا التخلي عنه لمجرد أنه يثير فينا الشكوك والمخاوف، أو لأنه صعب. سيكون بلا شك من المفيد جدًا لنا أن نطلع ونتأمل لنؤدي دورنا بثقة أكبر. يجب علينا التأكد من أن موافقاتنا ورفضنا تستند إلى أسباب كافية لكي نتمكن من الدفاع عنها. إن عدم وضوح الأفكار لا يجعلنا نتردد فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى مواقف متناقضة يشير إليها الأطفال بحق..

التنشئة السليمة

التنشئة السليمة
التنشئة السليمة للطفل

إن علم النفس والتربية الإيجابية ليسا علومًا دقيقة، ولهذا يجب أن ننظر إلى توجيهاتهما بشكل نسبي، ونتعامل معهما دائمًا بنظرة نقدية. يمكن أن يساعدنا المختصون، ويمكن أن ترشدنا مقترحاتهم، ولكن في النهاية لا يمكننا أن نترك لهم دورنا كآباء. لا يوجد، ولن يوجد أبدًا، دليل للآباء المثاليين، لأنهم لن ليسوا موجودين. يكفي أن نحب أطفالنا وأن نثق في منطقنا السليم، ونتصرف بأكبر قدر ممكن من الاتساق، ونتعامل مع الخوف أو الشعور بالذنب. ما لا يمكننا السماح به هو أن نستخدم هذه الأمور كذريعة للتخلي عن دورنا كآباء، لأن أطفالنا بحاجة إلينا. يحتاج الطفل إلى تلك السلطة الهادئة والمتأملة التي يجسدها القانون لبناء شخصيته، للدخول إلى العالم الاجتماعي..

نعلم أن أطفالنا بحاجة إلينا، ولكن إلى أي مدى نعترف بحاجتنا إليهم؟ نتوقع منهم أحيانًا أكثر مما يجب، نطالبهم بعاطفة ينبغي أن نجدها في أشخاص آخرين مثل الشريك، أو الأصدقاء… نطلب منهم أن يمنحونا الإحساس بالإنجاز والمعنى الذي ينبغي أن نبحث عنه في مجالات أخرى مثل المشاريع الشخصية، أو العمل، أو الهوايات… صحيح أن آباء اليوم ينهمكون بشكل مفرط في حياة أطفالهم، لكن ذلك مصحوب بتوقعات زائدة تثقل كاهلهم، وتزيد من صعوبة تربيتهم تربية إيجابية. أطفال اليوم غالبًا ما يتحملون عبء مسؤولية كبيرة تتمثل في إسعاد والديهم، تحقيق أحلامهم، ومنح حياتهم معنى. إن احتياجات الأطفال بسيطة وسهلة الإشباع: لنسأل أنفسنا إذا كانت مخاوفنا عند تربيتهم لا تعود في الأساس إلى احتياجاتنا نحن.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!